Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
Nasri...Always
Derniers commentaires
22 mars 2009

ذكريات قيروانية

بقلم: حسونة المصباحي
الطفل البدوي الذي كنت، كانت له مدينة احلام.وهذه المدينة كانت القيروان وفي تلك الاحراش الوعرة حيث فتحت عيني على العالم،وامام الهضاب الجرداء التي كنت تحيط بها، كانت القيروان حاضرة دائما وابدا.حاضرة بقداستها، وبمساجدها،وبأضرحة اوليائها الصالحين، وبأسواقها، وبمقبرتها الشهيرة،«مقبرة الجناح الاخضر» حيث يرقد المسلمون الاوائل الذي اقاموها وسط السهوب الشاسعة،وكانت الحكايات التي يرويها اهلي عنها، خصوصا عندما يزورونها في المولد النبوي، تجعل حضور القيروان اكثر قوة وبهاء في ذاكرتي وفي خيالي فأراها مدينة ساحرة ،فيها يتجلى الخير، والبركة ،والرحمة، والقداسة في ابهى معانيها تماما مثلما هو الحال بالنسبة لمكة التي يولّي الناس اليها وجوههم خمس مرات في اليوم الواحد.
وعندما كنت في الخامسة من عمري، رأت امي حلما عجيبا ظلت ترويه للناس اسابيع طويلة.وهي تقول ان طائرا اخضر الريش، احمر المنقار، رفعها الى السماء، وحلق بها فوق القيروان،وكان نور الله ساطعا على الدنيا بأسرها.ومن فوق، رأت مقام ابي زمعة البلوي يتلألأ مثل نجمة هائلة الحجم.وبين وقت واخر، كانت تلتفت الي وتقول باسمة:«اتمنى من الله ان تكون الطائر الاخضر الذي سيأخذني الى القيروان!».
                واظن اني كنت في الثالثة عشر من عمري، لما زرت القيروان للمرة الاولى.
حدث ذلك في الصيف، ورغم الحرارة الشديدة، فاني تجولت في اسواقها، وزرت الجامع الاعظم، ومقام ابي زمعة البلوي.وفي اليوم التالي، عدت مذهولا الى قريتي اذ اني وجدتها اكثر سحرا وجمالا وفتنة من الصورة التي كانت مرسومة عنها في ذهني.ومنذ ذلك الوقت، تعلقت بها تعلقا شديدا، فأخذت اقرأ تاريخها القديم بشغف لا مثيل له، مشدودا بالخصوص الى الاساطير والقصص الخيالية التي نسجت حولها، وحول رجالها، واوليائها الصالحين..
ثم لم ألبث ان انصرفت عن ذلك.فقد فتنت بالماركسية،وبدأت المدن القديمة تزعجني لانها لا تملك سمات المدينة العصرية حيث البروليتاريا والصراع الطبقي وحيث يكون المقدس عائقا للتطور ،ومرتدا بالتاريخ الى الوراء.وهكذا اهملت القيروان.وبدأت اتعامل معها كما لو انها مدينة قروسطية منسية في السهوب.وعندما اعبرها ،اشعر كما لو انني اعبر تاريخا مضى وانتهى.
وفي اخر السبعينات حدثت «الصحوة»، وعدت الى القيروان مثلما يعود الابن الضال.ومع امي سكنت شقة صغيرة على اطراف المدينة.ورغم المصاعب المادية التي اعاني منها يوميا، شعرت اني حققت حلم امي القديم، واني ذلك الطائر الاخضر الريش، الاحمر المنقار، الذي حلق بها فوق القيروان.وبعيدا عن صخب العاصمة وحمى الايديولوجيات اليسارية التي كانت مستبدة بأبناء جيلي، بدأت استعيد توازني.وكل يوم كنت اقضي ساعات طويلة في المكتبة العمومية اقرأ امهات الكتب في التاريخ، وفي الادب، وفي الفلسفة، وفي غير ذلك من المجالات.وقد وجدت في تاريخ القيروان ما ساعدني على استعادة صورتها المشرقة التي رافقتني في سنوات الطفولة والمراهقة،فتصالحت معها، تصالحت مع نفسي.
وانا لا انسى ابدا تلك الساعات الممتعة التي كنت اقضيها مع صديقي بشير القهواجي الذي كان منكبا انذاك على كتابة مسرحيته الرائعة «بيارق الله» التي سوف يثير فيها قضية من اخطر القضايا التي واجهتها وتواجهها بلاد الشرق، اعني بذلك الاستبداد.وكان بشير القهواجي عارفا بتاريخ القيروان في ادق تفاصيله، وعارفا ايضا بكل ما يتصل بالقيروان في المجال الادبي والمعماري.وكان يمتلك معلومات هامة عن الرحالة الاجانب الذين زاروا القيروان، وعنها كتبوا.وهو اول من لفت نظري الى ان الشاعر الالماني الكبير راينار ماريا ريلكه كان قد زار القيروان عام 1912، وامضى فيها ليلة عانى فيها من هجومات الناموس الشيء الذي جعله يعجل بمغادرتها.وفي رسالة بعث بها الى زوجته، كتب ريلكه يقول بأن القيروان« مدينة محاطة بالاموات».
كما لا انسى ابدا تلك الجلسات التي كانت تنتظم في مقاهي القيروان والتي كان يحضرها شعراء وكتاب من امثال المنصف الوهايبي ومحمد الغزي والبشير القهواجي، واخوه حسين، وعبد الجليل بوقرة ، واخوه فارس، والصحبي العلاني ،واخرون. واحيانا كان يأتي خالد النجار ليشيع في المدينة الهادئة شيئا من صخب العاصمة.ولانه يمتلك ذاكرة قوية، فان المنصف الوهايبي كان يحول تلك الجلسات الى مهرجان شعري بأتم معنى الكلمة.ومن خلاله، تعرفنا على العديد من الشعراء المحدثين،واكتشفنا كنوزا من الشعر العربي كانت مجهولة لدى اغلبنا حتى ذلك الوقت..وكانت تلك السنوات مثمرة على المستوى الادبي.وشخصيا استفدت منها كثيرا.لذلك سوف تحضر القيروان في العديد من قصصي ورواياتي خصوصا في«وداعا روزالي».وسوف تصبح بماضيها وحاضرها موحية، ومغذية لخيالي.وحتى هذه الساعة مازلت اقلب صفحات تاريخها البديع لانه مصدر من مصادر الابداع الاثيرة الى نفسي.كما انه يمنحني القدرة على فهم روح بلادي، بل الحضارة العربية الاسلامية برمتها.
                hamosbahi @ hotmail.com             

Publicité
Publicité
Commentaires
Nasri...Always
Publicité
Archives
Newsletter
Publicité